الحُزنْ ـ الجُزءُ الثَالِثْ

يمكنكم سماع النص المكتوب إذا كنتم لا ترغبون في القراءة

خِلالَ الأُسابيعِ المَاضيّة قد كَتَبنا لَكُم عَنْ مَوضوعِ „الحُزن“. وشَرَحنَا مَا هو الحُزنُ. ثُم ذَكَرنَا بِأَنَ هُنَاكَ اختِلافَاتٌ ثَقافِيةٌ فِي عَمليةِ الحُزنِ. وفِي نِهايةِ المقالِ، عَالجنا الحَاْلةَ التي قَد يُصبِحُ فيها الحُزنُ مُشكلةً. فِي هَذا المَقَالِ سَنُعَالِجُ الحُزنَ وفُقدَانُ الوَطَنِ

فِي مَجرى حَياتِنَا، نَحنُ لا نَبني عَلاقاتٍ مَع أَشخاصٍ آخَريِنَ فَحَسبْ، بَل نَرتَبِطُ أَيضاً مَع الوَطن وكُلُ مَا يَخصهُ. إِذَا اِضطُرِرنَا إِلى مُغادَرَةِ وَطَنِنَا بِسَبَبِ اللُّجوءِ والحَربِ، فَإنَ ذَلِكَ يُؤثر عَلينا بالطَبع. نَفقِدُ جِزءاً أساسياً مِن أَنْفُسِنَا. هَذهِ الخَسارةُ مؤلمةٌ جِداً ونَحزَنُ عَليِها. الحُزنُ الذي نَشعرُ بِهِ في هَذا السياقِ هو رَدُ فِعلٍ طَبيعي لِمُعَالَجَةِ الخَسارة ويُمكِنُ أَنْ يَكونَ لَهُ آثَارٌ عَلى صِحَتِنَا النَفْسِّيةَ

حِكايةُ وَفاء وأَفكَارُهَا تَدُلُنَا عَلى مَعنَى خَسارةِ الوَطنْ

السَّيدةَ وَفاء مِن سوريا. كانَت في سوريا اِمرأَة نَاجِحةَ لِلغايةِ. بِالإِضَافَةِ إِلى وَظِيفَتِهَا كَمُعَلِمةٍ لِلمَرحَلَةِ الاِبتدائيةِ في المَدرسِةً، كَانت أيضاً تَاجرةُ عَقارَاتً مُهِمَةٍ تَحظَى بِالكَثيرِ مِن الاِحتِرَامِ فِي (مِهنَةٍ يُهَيمِنُ عَليِهَا الذُكور). عَمِلَتْ بِجدٍ لِمُدَةِ أَربَعِينَ عَاماً، وحَارَبتْ جَميِعَ أَنواعِ الصورِ النَمَطيَّةَ، وصَنَعتْ اِسماً لِنَفْسِهَا وكَانَتْ نَموذَجاً يُحتَذى بِهِ لِلعَدِيدِ مِنَ النِسَّاءِ. في وقتٍ ما اِندِلعت الحَربِ فِي سوريا. لِحُسنِ الحَظ، لَم تَفقُد أَيّاً مِن أَفرادِ أُسرَتِها أَو أَصدِقَائِها المُقَرَبين. ولكن بِسبَبِ تِلكَ الحَرب، اِختَفى تَدرِيجِياً كُلُ شَيء قَد أَنْجَزَتْهُ بِالكَدِ والتَعَبِ وسَهرِ اللَّيَالي. فِي وَقتٍ مَا حَيثُ أَصبَحَ الوَضعُ خَطيرٌ لِلغايةِ اِضطُرَتْ لِلهَرَبِ إِلى أَلمانيا مَع أولادِها مِنذُ سِتِ سَنَوات. ومُنذُ ذَلِكَ الحين، تَشعرُ وَفاء بِالحُزنِ المُستَمرِ. وتَفتَقِدُ وتَشتَاقُ لِكُلِ شَيء فِي سوريا، تَكونُ مُنشَغِلَةً بتِلكَ المَشاعِرِ بِاستمرَارٍ وتَتَمَنى طَوالَ الوَقت لَمُ شَملِها بِوَطَنِها وأَنْ تَستَعِيدَ كُلَ مَا كَانت تَملكُه مِن قَبل فِي سوريا

حِرمانُ أَحداً مَا مِن الوَطن، الأمَان، الطَعام، الرَوائِح، والشُعور بَأنَهُ جِزءُ مِن مَجموعةٍ    

المَشي فِي شَوارِعِ المَدِينةَ دونَ أَن يَشعرَ المَرء تَماماً كَأنَهُ غَريب، وعِنْدَما يُحَاوِلُ الاِعتقاد بِأَنْهُ لَم يَعُد غَريباً بَعدَ الأنْ، تَعودُ نَظرات أَو تَعليقاتٌ الآخرين لتُذَكِيرهُ بِذَلكَ

أَنْ تَكونَ حَبِيِّسَ ذِكرياتٍ مِنَ المَاضي

أَنْ يَتم تَصغيرُها مِن اِمرأَةِ نَاجِحةٍ لِلغَايَّة ومُستَقِلَة إِلى لَاجِئةً تَرتَدِي الحِجابَ

السَبَبُ فِي حُزنِ السَّيدةِ وَفاء يَعودُ إِلى فُقدَانِهَا لِوَطَنِها. لَقَدْ فَقَدَتْ وَفاء وَطنَها وكُلُ شَيء فِيهِ ومَعهُ أيضَاً مَا يُقدرُ بأَربعينَ عَاماً مِنَ العَملِ والشُّعورِ بَأنَ لَها هَدَفاً فِي هَذهِ الحَياةِ. مَع هَذهِ الخَسارَةِ، فَقدَتْ الشُّعورَ بالاِستِقرَارِ والعَودَةِ إِلى الحَياةِ الطَبيعِيَةِ. فَهِيَ تَشّعُرُ بِأَلمٍ شَدِيدٍ وبِالحُزنِ. الآثَارُ النَفْسِّيةُ تَظهَرُ في الحُزنِ المُستَمرِ والرَّغبةِ الشَديِدةِ والاِنشغالِ بِمَا فَقدَتْهُ. إنَ هَذهِ الأَعراضَ مُستَمرِةٌ مِنْذُ مُدَةٍ طَويلَةٍ ووَفاء تُعَانِي مِنْهَا كَثِيراً    

يُظهِرُ هَذا تَشَّابُهاً قَويّاً مَع تَشخِيصِ „اِضطِرَابُ الحُزنُ المُستَمر“. حَيثُ إَنَ السيِّدةَ وَفاء تُعاني مِنْ إِجهادِ الِانْفِصَالِ. وهَذا يَعني بِأَنَ لَدَيِهَا رَغبةٌ قَويَّةٌ فِي اِستعادةِ مَا فَقَدَتهُ وهي مُنْشَغِلَةٌ بِاستِمرَارٍ بِذَلك. بالإضافةِ إلىَ ذَلك لَديها أعراضً معرفية سلوكية وعاطفية

تَتَجلَّى هَذِهِ الأعراضُ بِشكلٍ خَاصٍ فِي حُزنِهِا. يَكمُنُ الاِختِلَافُ فِي اِضطِرَابِ الحُزنِ المُستَمرِ فِي أَنَ المُسَبب لَيِس مَوتُ أَو اِختِفَاءُ أَحَدِ الأَحبَاءِ، بَلْ فُقدَانُ الوَطنِ/المَنْزلِ المَوصوف. يُمكِنُ أَنْ يَتَسَبَبَ فِقدَانُ الوَطنِ/المَنزلِ أَيضاً فِي رَدِ فِعلِ حُزنٍ قَويِّ ومُستَمر

لا يُمكنُ أَنْ يَكونَ الحُزنُ نَاتِجاً فَقط عَن وفَاةِ أَحدِ الأَحباءِ المُقَرَبينَ، بَلْ يُمكِنُ أَنْ يَكونَ فُقدَانُ الوَطنِ/المَنزلِ أَيّضاً سَبَباً رَئيسياً لِلحُزنِ. رَدُ الفِعلِ هَذا طَبيعِيٌّ ومُبَررٌ. لِأَنَ جِزءاً أَساسِّياً مِنْ أَنْفُسِنَا قَد مَاتْ بِفُقدَانِ مَنْزِلِنَا ونَفسِيُتنَا تُحَاوِلُ مُعَالَجةُ هَذا الفُقدَان. إِحدَى النَتائجِ المُحتَملةِ هِي الأَعرَاضُ المَوصوفَةُ التَي ذُكِرت. يُمكِنُ أَنْ تَحدُثَ بِشَّكلٍ فَرديِّ فِي شِدةٍ مُختَلِفَةٍ وقَدْ تَستَمرُ لِفَتَراتٍ زَمَنِيةٍ مُختَلِفَةٍ أيِّضاً

مِنَ المُهمِ التَأكيدِ عَلى أَنَ خُروجَكَ مِن وَطنِكَ بِسبَبِ الحَربِ واللُّجوءِ، وبالتالي رُبما فُقدانُهُ إِلى الأَبد، هو سَبَبٌ مَشروعٌ لِلشعورِ بِالحُزنِ. الحُزنُ هو خُطوةُ مُعَالَجَةٍ مُهمةٍ فِي التَعامُلِ مَع هَذهِ الخَسارَةِ الفَادِحَةِ. ومَع ذَلِكَ، إِذَا اِستَمرَ حُزنُنَا بِشَّكلٍ مُكثَفٍ ولِفَترَةٍ طَويلَةٍ جِداً ومَنَعْنَا مِنَ التَعامُلِ مَعَ حَياتِنَا اليَوميِّة، فِمَنَ المُهمِ أَنْ نَسْعَى لِلحُصولِ عَلى الدَعمِ

اِعتَنوا بِأَنْفُسِكُم يا أعزاءي نَلتَقي الأُسبوعَ القَادِم

الحُزنْ ـ الجُزءُ الثَاني

يمكنكم سماع النص المكتوب إذا كنتم لا ترغبون في القراءة

فِي الأُسبوعِ المَاضي كَتبنا لَكُم عَن „الحُزنْ“ وكَتبنا عَن أَحدِ النَماذجِ النَفسِّيةِ الَتي تَتَعَامَلُ مَعَ الحُزن، كُلُ النَمَاذِجِ

والنَظرياتِ لَهَا „هَدفٌ نِهائي“. هَذاْ يَكمُنُ في قُبولِ الخَسارةِ المُسَبِبَةِ لِلحُزنِ في مَرحلةٍ مَا والمُضِّي قُدُمَاً مَعَها

اليَومُ سَوفَ نُعالجُ الأسئِلةَ التَالية: هَل يَحزنُ النَاسُ عَلى نَفسِ الشَكلِ فِي كُلِ مَكانٍ فِي العَالم؟ هَل تَستَمرُ عَمَليةُ الحِدَادِ/الحُزنِ فِي كُلِ مَكان بِنَفسِ المُدةِ؟ مَاذا يُمكنُ أَن يَحدُثَ إِذَا كَانت عَمليةُ الحُزنِ أكثَرَ شِدَةً وتَستَغرِقُ وقتَاً أَطولَ بِكَثيرٍ؟

:أَخبَرَنِي صَديقٌ مُقَرَبٌ مؤَخَراً

„الحُزنُ هوَ ظَاهرةٌ عَالمَيةٌ من دونِ نَظريةٌ عَالمَيةَ“

يُوضحُ هَذا الاِقتِبَاس بِأَنَهُ يُمكِنُ بِبساطةٍ الإجَابَةُ على السؤالين الأولين بِالنَفيّ! في عَمليةِ الحزن، حَيثُ تَبدو شِّدَةَ وطَولِ تَجربةِ الحُزن مُختَلِفَةً تَماماً مِن شَخصٍ لِآخَرٍ ومِنْ ثَقَافَةٍ إلى أُخرى. عَلى سَبيلِ المِثَالِ، يَحزنُ سُكانُ نَفَاجْو الأصليّون فِي وِلايَة أُريزونا لِمُدَةِ أَربعةِ أَيامٍ فَقط، بَينَمَا فِي الثَقافَاتِ الغَربيةَ يَبلُغُ مُتَوسِطُ الحِداد حَوالي عَام على سَبيلِ المِثَالِ عِندَ فُقدانُ الزَوج. حتى الطَريقةُ التي يَظهرُ فِيهِا الحُزنُ تَكونُ مُختَلِفةٌ أَيضاً. فِي المُجتَمَعاتِ الغَربيِّة، مِن المُرجَح أَنْ يَتمُ إظهارُ الحُزن في الأُسرة أو بَين الأصدِقاء. وَبِعكسِ ذلك، هُناكَ إِعرابٌ عَلَنيٌ لِلحِدادِ فِي العَديدِ مِنْ دولِ جَنوبِ أوروبَا وشَمالِ إِفريقيا. في بَعضِ الثَقافاتِ يُعتَبَرُ الحِدادُ العَلَنِّي غَير صِحيّ أَو حَتى مَمنوع، وعِندَ البَعضِ الآخرِ لا يَبكونَ فِي وَجهِ الخَسارة، بَل يَبتَسِمون

لِذا فَإنَ المُحَصِلَة النِهائِيةَ هي: الحُزنَ عَملِيةٌ فَرديةٌ بَحتِيه، تَتأثَرُ بِشدةٍ بِالثَقافَةِ

نَأتي الآن إلى آخرِ الأَسئلَةِ المَذكورةِ أَعلاه. مَاذا يُمكنُ أَن يَحدُث إذا بَدأت عَملِيةُ الحُزنِ بأخذِ أشكالٍ مُستَمرةً وَشَديدة؟

يُعتَقَدُ فِي عِلمِ النَفْسِ „الغَربيّ“ أَنه إذا استَمرَ الحُزن بِشَكلٍ حَادٍ على مَدى فَترةٍ طَويلةٍ جداً مِنَ الوقت وكان يُحققُ مَعايير أُخرى فَيُمكِنُ أَن يَحدثَ مَا يُسَمى بِاضطِرَابِ الحُزنِ المُستَمر ـ غَيرُ الاكتئاب

يُعرَّف اِضطِرابُ الحُزنِ المُستَمر بِأَنَهُ مَرضٌ يُؤدي إلى رَدَ فِعلِ حُزنٍ مُستمرٍ ومُتَغلغِلٍ بَعدَ وَفاةِ شَخصٍ قَريبٍ جِداً.

:وَيتَمَيزُ بِمَا يلي

١. إِجهادُ الاِنْفِصَالِ: الذي يصف لَهْفَةً قَويةً أو اِستمرارُ الانشغال (أي التَفكيرُ الدائمْ) بالشخصِ المتوفى

٢. الأَعراضُ المَعرِفيةَ – السِّلوكيَّة – العَاطِفيَّة المَصّحوبةِ بألمٍ عَاطِفي شَديد

عَلى سَبيلِ المِثال الحُزنُ والشُعورُ بِالذَنبِ والغَضبِ والإنكارِ والتَوبيخِ والتَنميلِ العاطفِي

صُعوبةُ تَقبلِ المَوت

الشعورُ بِفُقدَانِ جِزءٍ مِنَ الذَات

عَدمُ القُدرةِ عَلى اِختبارُ المَشاعر الإيَجابيةِ

٣. يَستَمرُ رَدُ فِعلِ الحُزنِ لِفَترَةٍ طَويلَةِ بِشكلٍ غَيرِ مُعتَادٍ بَعدَ الخَسارَةِ (عَلى الأَقل ٦ أَشهرٍ) ويَجبُ أَن يَتجاوزَ بِوضوحٍ المَعايِّيرَ الاجتماعيةِ، الثَقافيةِ أو الدينِيةِ المُتَوقعة لِثَقافَة المَرءِ وسِيَاقِ حَياتِهِ

٤. إعَاقَاتٌ كَبيرةٌ فِي مَجالاتٍ مُهِمَةٍ مِنَ الحَياةِ

إذاً مَاذا الآنْ؟ هَلْ نَحنُ „مُضطرِبين“ فَقطْ لِأَنَنَا نَحزَنْ؟

بِالطَبعِ لا! كَما قُلتُ سَابِقاً، الحُزنُ هو ردةُ فِعلٍ طَبيعيةٍ وآليةِ مُعالجة. يُمْكِنُنا ومِنَ المَسموحِ لَنَا أن نَحزنْ. يُمكِنُنا التَحدثُ مَع أَنْفُسِنَا عَنْ خسارَتِنَا. يُمكِنُنا القِيامُ بِطُقوسٍ وشَعَائرٍ. لَيسَ هُنَاك الصَحيح أو الخَاطئ. يُمكِنُ اِستخدامُ أَيَّ شَيء ليُساعِدُ المَرءُ فِي الحِفَاظِ عَلى الذِكرياتِ الجَميلةِ، وتَقبلِ مَشاعرِ الحُزن، وعِنْدَمَا يَحينُ الوَقت لذَلِكَ، لِلعَودةِ إلى الحَياةِ 

لَكنْ دَعونا نَقول: فِي الوَقتِ الذي يَستَمرُ فيهِ حُزنُنَا بِشدةٍ ولِفَترةٍ طَويلةٍ جِداً ويَمنَعُنَا مِن الاِستمتَاعِ بِالحَياةِ والشُعورِ بِالرَاحَةِ كَمَا كُنا نَشعُرُ قَبلَ الخَسارة، يَنبَغي عَليّنَا التَفكيرَ فِي الحُصولِ عَلى (المَزيدِ من) الدَعم

نَلتَقي الأُسبوعَ القَادِم!

نَتطلع لِذَلِكَ بِشدةَ!