تَجرُبَتِي مَع العِلاجِ النَفْسِّي

يمكنكم سماع النص المكتوب إذا كنتم لا ترغبون في القراءة

جِئتُ إِلى أَلمانيا فِي عَامِ ٢٠١٥. رُبَما اِلتَقَيِّنا عَلى طَريقِ اللُّجوءِ، لَقدْ كَانَ طَريقاً طَويّلاً، ومَع ذَلكْ فَإنَ الأَملَ فِي المُستَقبَلِ الجَديدِ قَد رَافَقَنا وشَجَعنا على الاِستمرارِ فِي المُضيِّ قُدُماً وعَدمِ الاستسلامِ. حَيثُ ان أَحلامُنَا تَنتَظِرُنا، وصولُنَا هُناكَ يَعني نِهايةُ المُعَانَاةِ

أَشعرُ وكَأنَني كُنتُ مُخطِئاً، لا تَزالُ المُعاناةُ مَوجودة. ظَنَنتُ أَنْهُ بِمُجَرَدِ وصولِي إِلى هُنَا، سَأجِدُ سَلامي. لَم يَعُد عَليَّ المَشيَ لِأَيامٍ مُتَتالِيةَّ أَو قَضاءُ اللَّيلَ خَارِجاً فِي العَراءِ، نَعَمْ وَجدْتُ سَلامي عَلى المُستَوى الجَسَديّ. وهَذا أَمرٌ جَيدٌ جِداً، ولَكنَ التَفكِيرَ المُبَالَغ بِهِ، ومَخاوفِي وقَلَقِي، وَمَا إِلى ذَلِكْ، الَتي يَبدو أَنْها لَا تُرِيدُ الاِنْفِصَالَ عَنْيِّ، لَا تَزالُ تُرافِقُني هُنَا أَيِّضاً. أَظلُ أَتَساءلُ مَا الَذي يَحدُثُ مَعيِّ، أَنا بِأَمانٍ هُنَا! 

أَوَّدُ أَنْ أَعتَرِفَ لَكُم بِشيء، فِي سُوريا كُنْتُ أَشعرُ بِالخَوفِ دَائِماً عِنْدَمَا كَانَتْ تَأتي طَائِرةٌ مُقَاتِلَةٌ لِزِيَارَتَنا. وأَعتَقِدُ بِأنَهُ خَوفٌ مُبَررٌ. أَما أَنْ أَشعرَ بِالخَوفِ هُنَا حَيثُ لَا وجوّدَ لِلحَربِ، عِنْدَمَا أَرى طَائرةً حَربيةً أَو أَسمعَ الاَلعَابَ النَاريَّة عَلى سَبيلِ المِثالِ باِحتِفَالاَتِ رَأسِ السَّنَة فَهذا خَوفٌ غَيرُ مبررٍ بِكُلِ تَأكِيدْ

يَجبُ أَنْ أَفعلَ شَيئاً، لَطالَما فَكرتُ بِذَلِك. لَم أَسمحَ بِحُدوثِ أَيِّ شَيءٍ لِيِّ أَو لِجَسَديِّ، ولِهَذا السَبَبْ بِالتَحديدِ غَادَرتُ بَلَدي، ولَكنْ لِمَاذَا لَا أَفعَلُ أَيَّ شَيءٍ مِن أَجلِ روحِّي وسَّلَامِيَّ النَفْسِّي؟

قَررَتُ طَلبَ المُسَاعَدة. أُرِيدُ الذَهابَ إلى مُعالجٍ أَو مُعَالِجَةٍ نَفْسيِّةَ. فِي المُحاوَلَةِ الأولى لِلحُصولِ عَلى مَوعدٍ، شَعرتُ بِالإحباطْ. لِأَنْهُ كَانَ عَليَّ الاِنْتِظَارُ لِمُدةٍ طَويِّلَةٍ

لَا أَستَطِيعُ تَغييرَ شَيءٍ، دَعونَا فَقَطْ نَتَخَطى وَقتَ الاِنْتِظَارِ أَو رُبَما أَيِّضاً الجَلسةَ الأولى مَع المُعَالجِ النَفْسِّي، لِأَنهُ لَيِسَ لَديِّ شَيءٌ جَديدٌ لِأُخبِرُكُم بِهِ عَنْ هَذَا اللِقَاء، لَقدْ أَخْبَرتُهُ بِنَفسِ الشِّيِء الَذي أَخبَرتُكُم بِهِ، اِجَابتُهُ كَانَتْ عِبَارَةً عَنْ حُبوبٌ لِلنَوم ومَوعِدٌ ثَاني

أَعتَقدُ بِأَنْكُم قَد تُرَاهِنونَ عَلى عَدمِ ذَهابِي لِلمَوعِدِ الثَاني، أَوَّدُ أَنْ أُهَنِئكُم عَلى هَذا، تَوَّقُعٌ صَحيِحْ! ومَع ذَلِكْ وَاصَلْتُ البَحثْ. يَا لِلأسفْ، لَمْ أَنْجَح فِي المُحَاوَلَةِ الثَانِيَّة أَيِّضَاً. شَعَرتُ أَنَ المُعَالِجةَ النَفْسيِّةَ لَا تَستَطِيعُ فَهمي. أَو عَلى الأَقل كَانَ هَذا اِنْطِبَاعيِّ الخَاص. هَاتَانِ المُحَاوَلَتَانِ جَعلَتَاني أَشعرُ بِالإحبَاطِ واليِّأس وأَكدَّتَا اَحْكَاميِّ المُسّبَقَة حَوّلَ المُعَالَجَةٍ النَفْسيِّةَ. وَهَذا يَعني العَوّدةَ إِلى نُقطَةِ البِدايَّة دُونَ نَتَائِج

هَذا مَا اِعتَقَدْتُهُ. لَكنْ يَبدو أَنَ التَفكيرَ الزَائِد لَهُ أَيِّضَاً فَوائِدَهُ الإيِّجَابِيِّة. كُنْتُ أَتَساءلُ مَا هو سَبَبُ فَشلِ مُحَاولاتي

أَلا يُمكِنُ أَن يَكونَ ذَلِك بِسَبَبِ وُجودِ مَشاكلٍ لُغَويةٍ؟ أَعنِّي، الأَلمَانيِّةَ لَيّسَت لُغَتي الأُم. رُبَما لَم اتَمَكنَ مِن شَرحِ مُشكِلَتي بِشَكلٍ جَيّدٍ بِسَبَبِ اللُّغةَ أَو أَنَهُم لَمْ يَّفهَمونَي لِأَسبَابٍ ثَقَافِيةٍ

هَلْ يُمكِنُ أَنْ يَكونَ السببُ أَيضاً عَدم الصَبر؟ لَا يَنْبَغِي لِلمَرء أَنْ يَتَوقعْ بِأَنْ يَّكونَ قَادِرَاً عَلى الشُعورِ بِالتَحسُن أَو التَغَييُرات بَعدَ المَوعِدِ الأَول. حَالَتِي، علَى سَبِيلِ المِثَالِ، تَطوَرَت أَو تَدَهوَرَت عَلى مَرِ السِنِين، لِذَلِك لَا يُمكنُ، بِطَبِيعَة الحَالِ، أَنْ أَشعرَ بِالتَحسنِ فِي جَلسَةٍ وَاحِدَةٍ.

أَو رُبَما بِبسَاطَةِ، هَؤلَاءُ المُعَالِجون لَيَّسوا جَيِّديِن بِمَا فيهِ الكِفَاية؟ 

لِذَا قَررَتُ أَنْ أَستَمرَ بِالبَحثْ، وَقدْ كَان ذَلكَ قَراراً جَيداً. أَنا الآن اتَلَقى العِلاج مِن مُعالجٍ نَفْسِّي، أَذهبُ إِلَى العِلاجِ بِانتِظَام مُنذُ فَترةٍ مِنَ الزَمن وأَنا أُلاحِظُ بِبُطٍء أَن حَالَتِي تَتَحَسن، حَتى لَو كَانَ هَذا التَحسُن بِطيءٍ فِي البِداية، فَإِنَها خُطوةٌ فِي الاِتجاهِ الصَحيح.

هَلْ كَانَ ذَلِك مُجردُ حَظْ؟ لا أَعتَقِدُ ذَلِكْ، وَلَكنْ أَوَّدُ أَنْ أَقولَ أَنْ هَذا الأمر هو عِبارَة عَنْ كَسبِ تَجاربٍ حَيَّاتِيَّة. وهَذا يَشملُ التَجارُبَ السيئةَ والجَيَّدةَ عَلى حَدٍ سَّواء. التَناقُضُ فِي حَدِ ذَاتِهِ لَيِّسَ سَيئاً عَلى الإطِلاق، لِأَنْهُ يُعطِيِّنَا الفُرصَة أَولاً لِتَجرُبَةِ أَشياءٍ مُختَلِفَةٍ ومِنْ ثُمَ مُقَارَنَتِهَا مَعْ بَعضِهَا البَعضْ

عَلى سَبِيلِ المِثَالِ النَكَهاتِ المُختَلِفَةِ، عَنْ طَريِّقِ تَجرُبَتِنَا لِلطَعمِ المُرْ يُمكِنُنَا تَمْييزُ الطَعْمِ الحِلّو والعَكسْ صَحيح.

لذلك، أَوَّدُ أَنْ أُشَجِعَكُم عَلى عَدمِ الاِستِسلامِ عِنْدَ التَجرُبَةِ المَريِّرَةِ، بَلْ الاِستمرار والِاستِمتَاعِ بِالتَجرُبَةِ الجَميِلةَ 

مُمَزَقٌ بَيِّنَ أَشباحِ المَاضِي وأَحلَامِ المُستَقبلِ

يمكنكم سماع النص المكتوب إذا كنتم لا ترغبون في القراءة

قِصَّتي مُشَابِهةٌ لِقِصَصِ الكَثِيرِ مِنْكُم. وَمَع ذَلِكْ فَهي فَريِّدةٌ مِنْ نَوعِهَا

حَتى سِنْ الثالِثةَ عَشر، كَانَتْ حَيَّاتِي طَبِيعِيَةً جداً. كَان شَاغلي الأكبر، مُثلُ العَديِّدِ مِنَ الأَطفالِ الآخريِّن فِي مِثلِ سِنِّي، هو مَا كُنْتُ سَأكلُهُ عَلى العَشاءِ، ومَا سَأرتَديِّهِ فيِ اليَّومِ التَالي، ومَا إذَّا كانَ المُعلمُ سَيُّعطِيِّنَا وَاجِباتٌ مَنْزِلِيِّةٌ صَعبة

في عَامِ ٢٠١١ اِنْدَلَعتْ الحَربُ في بَلديِّ الأُم – سوريَّا – وَهَكَذاْ غَيَّرتْ الطَلقةَ الأَولى مَع القُنبُلَةِ الأولى كُلَ مَا كانَ مَعروفاً ومَألوفاً بِالنْسبَةِ ليّ. مُنْذُ ذَلِكْ الحيِّن، والنْاسُ يأمَلونَ وَيُصلَونَ كلَ يَّومٍ أَنْ يَّنْتَهي هَذا الكابوسُ قَريِّباً، وَمَعْ ذَلِكْ فَهو يُرَافِقُنا حَتى يَّومِنَا هَذا

يُعتَبرُ التَعذيِّبُ والجَوعُ والخَوفُ والحَزنُ والغَضبُ والهُروبُ والمَوتُ بِالنِسبَةِ لِلكَثيريِّن عَبارةٌ عن سِلسِلَةً مِنَ الكَلِمَاتِ السَّلبيةِ. لَكنْ بِالنِسبَةِ لِلكَثيريِّن الآخَريِّن هُم الوَاقِع. إذَّا سَّألتُموني مَا الَذِي يوحِدُنَا بِشَكلٍ أَساسيِّ كلاجِئيِّن ومَا الَذِي يُمَيِّزُنَا عَنْ غَيِّر اللَاجِئيِّن، فَإِنَ جَوابي هو: الحَظُ السَّيئ!

حَظٌ سيئ لِأنَنا ولِدنا فِي مَكانٍ آخرْ. حَسناً، لَمْ يُحالِفُنَا الحَظْ واضّطُرِرنَا إِلى الفَرارِ. بِغَضِ النَظرِ عَنِ المَكانِ الَذِي وَصَلنَا إِليِّهِ في العَالمِ، حَاولنا وما زِلنْا نُحاوِلُ جَميِّعاً بِطُرُقٍ مُختَلِفَةٍ بدءِ حَياةٍ جَدِيدَةٍ. يوجدُ شَيءٌ وَاحد مؤكداً بِالنِسبَةِ لِي. بِغَضِ النَظرِ عَنْ مَدى نَجاحِنَا أَو عَدَمِ نَجاحِنَا فِي البِدايَّةِ الجَديِّدَةِ، لَدينا جَميِّعاً قَاسِمان مُشتَركان: ألا وَهُما زِيارَةُ أَشباحِ المَاضِي وَزِيارَةُ أَحلامِ المُستَقبَل

بِالنِسبَةِ لِلضَيِّفِ الأَول (أَشباح الماضي)، أَطلُبُ مِنْكَم أَلا تَفهَمَونّي بِشَكلٍ خَاطِئ. الأَشباحُ لَيِّسَتْ دَائِماً شِريِّرةَ. البَعضُ دَافئٌ ومُحبٌ ويَضعُ اِبتِسَامَةً صَادِقَةً عَلى وجوهِنَا. هَذهِ الأَشباحُ هِي الذِكرَيَّاتُ العَزيِّزةَ. الأَرواحُ الأخُرى شِريرة وتُسبب حُزناً يسحقُ قلوبنا بِشكلً مُوجع. هَذا الألم لا يُمكن لأي لوحةِ مفاتيحً في العالم أن تَوصِفهُ بشكلٍ مناسبً ولا حتى جزءً منه. الأَمرُ نَفسهُ يَنطَبقُ عَلى الضيِّفِ الثَاني (أَحلامُ المُستَقبَل). يُمكنُ أَنْ يَكونَ الحُلمُ مُرضيِّاً ويَمنَحُنَا الأَمَلَ والقوةَ. لَكِنَ الحُلمَ يُمكنُ أَنْ يَكونَ مُزعِجاً ومُقلِقاً أيِّضاً. يُمكِنُ أَنْ يُفسد علينا اللِّيلة ويَجعَلُنَا مُتعَبيِّنَ فِي اليَومِ التَالِي. وهَكذَّا نَتَأرجَحُ بَيِّنَ الذِكرَيِاتِ والأَحلامِ. يُحاوِلُ البَعضُ عَدمَ السَماحِ لِلضَيِّفِ الأَولِ بِالدُخولِ والتَركيِّزِ عَلى المُستَقبَلِ. قَدْ يَخافُ الآخَرونَ مِنَ المُستَقبَلِ ولِذَلِكْ يُفَضِلونَ التَسَّامُحَ مَع (ورُبَما الاِستِمتاع) بزيِّارَةِ الضَيِّفِ الأَول

حَسنْاً، هَذهِ المُدونةَ موجَهةٌ لِلعربِ. والعَربُ مَشهورونَ جِداً بِكرَمِ ضِيَّافَتِهم. يَنبغي عَليِّنَا، بقَدَرُ الإِمْكَانِ، أَنْ نُرَحِبَ تَرحِيباً حَاراً بِجَميعِ الضُيّوفِ، سوآءاً أَكانْوا جَيِّديِنَ أَم سَيئيِّن، وأَنْ نَقبَلَهُم كَجِزءٍ مِنَّا. بِفَضلِ هَؤلاءِ الضُيوفِ، نَحْنُ الأَشخاصُ الَذِينَ مَا نَحْنُ عَليِّهِم اليَّوم. مِنَ المؤَكدِ أَنَ تَقَبلِ كِلا الضَيِّفيِّنِ لَيِسَ بِالأمرِ السَهلِ. إِنَهُ يُكلِفُنَا الكَثيِّرَ مِنَ الشَجاعَةِ والقوةِ وكَثِيراً مَا يُكلِفُنَا ذلك الكثيرَ مِنَ الدُموعِ. لَكنَنِّي أَقولُ دَائِماً: العَيِّنُ الَتي لَا تَبْكِي لَا تَسّتَطِيعُ الرؤيَّةَ بِوضوحٍ

أَثنَاءَ القِراءةِ، رُبَما لَاحَظْتَم أَنَنِّي غَالِباً مَا أَقوم بِالتَبديِّلِ بَيِّنَ الضَميرين „أَنا ونَحْنُ“ في المُخاطَبةِ. هَذا عَن قَصدْ! لأَنَهُ إِذَّا نَظَرْتَم إلى الجُملَةِ الأولى فِي هَذا المَقال، فَقدْ تُصبِحوا أَكثرَ وَعيِّاً بِمَدَى تَشابُهِ قِصَصِنَا وَلكن أيَضاً بِمَدى تَميزها جَميعاً

أَراكُمْ فِي المَرةِ القَادِمَةِ أيُّهَا الأَعِزَاء